Lebanon News I ليبانون تابلويد : أخبار الساعة من لبنان والعالم!


نعمه يعقوب نعمه في قراءة "عاميّة ١٩٠٢"

قرأ الأستاذ نعمه يعقوب نعمه كتاب " عاميّة ١٩٠٢" وكتب عنه نصه النقدي.

السبت ٢٧ أغسطس ٢٠٢٢

اخبار ليبانون تابلويد الآن عبر خدمة
اضغط هنا

" للأستاذ أنطوان سلامه كتاب عنوانه "عاميّة 1902"، عن دار منشورات دار سكريبت، وهو العاشر من انتاجه الكتبيّ.

قصة قد تصلح لأن تكون جزءا من كتاب، فهي على امتداد ستين صفحة فقط من الحجم الوسط.

تدور احداث القصة في مسقط رأس الاديب، في زوق مكايل، إحدى قرى كسروان.

 استند على حادثة عبرت منذ اكثر من مئة سنة لينسج قصة عن والدته (حسب ما جاء في لقاء اذاعي عبر اثير اذاعة صوت كل لبنان مع زافين كيوكجيان)، عارضا سمو اخلاقها وبعد نظرها.

بطلة القصة سيدة تدعى مرغريت (والدة الكاتب)، بنت القرية ولادةً وزواجًا وموتًا. تكتنز اخبار القرية وأحداثها منذ ما قبل ولادتها عبر جدها، الى يوم موتها، من دون ان يستفيض في الشرح عن هذه السيدة الوقورة.

 اراني امام سيدة- مثال، شبّهتها بوالدتي: هي المؤمنة، الكتومة، التي لا تتكلم إلا للصلح والخير العام، لا تعطي معلومات قد تؤدي الى مشاكل وتناحر واستنهاض الماضي الأليم.  تسمع، تحفظ ولا تبوح. تأخذ ولا تعطي خوفا من المناحرات وعودة الماضي من جديد.

 ثم نعلم لاحقا انها تلميذة راهبات المحبة (اللعازارية) في زوق مكايل، بمعنى آخر تلميذة الأرساليات الغربية، وما ادراك ما فضل هذه المؤسسات على لبنان والنشئ اللبناني من علم وثقافة ولياقة وحسن التدبير في المنزل والمجتمع. (الابداع في التطريز وصناعة حلوى المرصبان).

بذكاء كبير وحبكة ادبية مميزة وبين السطور، اخبرنا الكثير عن والدته، عن اي سيدة من زوق مكايل، ربيبة العلم والتقدم الاقتصادي والبحبوحة المادية.

 هذه السيدة المتحررة التي تستقبل الأغراب عن القرية: الأستاذ لبيب الرياشي من قرية الخنشارة، تستقبله وتتحدث معه كصديق. هذا المشهد يعطينا فكرة واضحة عن المرأة / السيدة اللبنانية المسيحية الواثقة من نفسها والغنية بالقيم والكرامة والتي تثق بنفسها ولا تخاف الضعف البشري.

من خلال  والدته تكلم الكاتب وكرّم كل ام لبنانية.

فكرة ثانية وردت في الكتاب ألا وهي الصراع ما بين الاقطاعية – الطبقة الحاكمة في جبل لبنان- وبين البرجوازية الجديدة الحاصلة على مالها من العمل والصناعة والمهارة اليدوية.

 تروي قصته حين بدأ المجتمع المسيحي في جبل لبنان يتحرر من تسلط الاقطاع الخازني بفضل جني الارباح المادية من الصناعة والابداع وبفضل العلم قبل كل شيئ...  هذه المرحلة كانت مفصلية في تاريح لبنان، فأخذ الكاتب نموذجا عنها، في احداث حصلت في قريته سنة 1902، في كنيسة ما ضومط.

ومن عادات ذلك الزمان عادة دفن موتى المشايخ في ارض الكنائس.

 أرخّ لقريته في لحظة ما، وعممها، وجعلها على مستوى الطائفة المارونية كافة، وكأن الربح او الخسارة لأحد الفريقين (عامة الشعب او المشايخ) سيرتد على كافة الطائفة في لبنان والمهجر.

 من حادثة فردية في قرية معينة يرفعها الكاتب الى حدث اجتماعي، سياسي، مستقبلي، ذات ابعاد اجتماعية ومالية وصحية (الشيخة المتوفاة موضوع النزاع ماتت بداء السل المعدي او بمرض آخر؟) لكن الكاتب وبعد مرور اكثر من قرن على الحادثة، يسردها من باب التندر او لاظهار كِبَر والدته، وليس من باب الشماتة او الثأر. فهو يعترف بفضل آل الخازن على الشعب في كسروان، ولا ننسى ان اقطاعهم طال ايضا ما يُعرف اليوم بقضائي جبيل والمتن الشمالي، في بناء الاديار وتأمين العمل والمسكن والحماية للموارنة خاصة وللمسيحيين عامة.  

هذا الكاتب المتصالح مع ذاته ومع التاريخ ينظر اليه ويكتبه من باب الواقع وليس من منظار الحقد او التشفي.

هذه العاميّة تذكرنا بالحرب التي دارت في اوروبا ايضا بين الاقطاعية (les princes) وبين البرجوازية (les notables ou bien la bourgeoisie). لقد رفع مستوى هذه الحادثة.

ولا ينسى الكاتب ان يسرد عادات القرية اللبنانية عبر الزوق، فهو في هذا الكتاب، ومرة جديدة، يعظّم قريته. اراني به سعيد عقل حين يمجّد زحله مدينته. وهذا ما يظهر مدى حب الكاتب لقريته بعاداتها وتقاليدها واهلها ( اصدرعن تاريخها كتابين). فهو الخائف من فقدان الذاكرة، يضع قريته والعادات في قالب من السردية او "الرواية" لكي لا تضيع اللحظة، ويجهد ليضع القارئ في صورة قريته وكأنه يحاول تجميد اللحظة في صورة مكتوبة، فابدع في ذلك وهو الاديب المرهف الذي ينتقي كلماته وعباراته البسيطة والمعبرة، فنحن امام السهل جدا والممتنع جدا. انها صناعة الكلمة من دون ان يشعر القارئ بتلك الحرفة "المصطنعة" .

لم تُعطى هذه الدربة الى الكثير من الكتاب، بل الى المتمرسين فقط، في السمع اولا وفي الكتابة ثانيا. في الاسمتماع الى أخبار وسرديات وحكايا الجدود الجدات ....

ولا ينسى الكاتب أن يذكر فضل الصنّاع والحرفيين على قريته بجعلها مقصدا تجاريا وصناعيا للمنطقة وهم بقسم منهم من طائفة الروم الكاثوليك، فيذكر اطياف قريته ولا ينسى ان يذكر انفتاح قريته واخلاق اهلها باستقبال المسلمين منهم اللاجئين اليهم بدافع الحب المقدس. يا لسمو وهناءة وبعد نظر هذا الشعب، يقدمه الكاتب نموذجا. حتى الشيخ يوسف يقدمه كأنسان يبحث عن الماضي ولا يريد الاعتراف بالانكسار، لكنه لا يخبر عنه سوى الاشياء الضرورية للقصة. فهو لا يظهره بمظهر الحقود... فقط، تسأل مرغريت عن مبتغى الشيخ والهدف من بحثة عن بلاطات مقابر المشايخ في حرم الكنيسة، لا اكثر ولا اقل ولا استرسال. ثم يعمد الكاتب الى ربط عاميته هذه بخيط رفيع مع كتاب سابق له (قوّاص البطريرك) وكأنهما فصلين في كتاب واحد، قصة واحدة احداثها تدور في زوق مكايل وابطالها اهله وربعه. وهذا ما يجعلنا نعترف اننا جميعا لدينا مكان جميل دارت فيه احداث (القرية او المدينة او الحي او حتى المدرسة او...) وعاشت فيه شخصيات، نستطيع ان نخبر عنها في قالب ادبي جميل، لكن هيهات ان نمتلك ناصية ادبية كالتي يمتلكها الاستاذ سلامه، فهو ينتقل وبسلاسة من مشهد الى آخر، ومن زمان الى آخر من دون ان يُشعر القارئ بالملل او الرتابة.

يضع القارئ في حالة ترقب وانتظار ليختم قصته بقفلة جميلة يساوي فيها بين القارئ واولاد مرغريت، فالسر نام مع نومها الأبدي بانتظار يوم القيامة، ومن يدري؟

في خضم الاحداث التي تعصف بوطننا لبنان وفي قلب الاخبار المؤلمة، يأتي الاستاذ سلامة بكتابه هذا، المفعم بالادب الرفيع والجميل البسيط والعميق والمعبّر، ليقول لنا ان لبنان ما زال بألف خير."

كلام الصورة: كتاب عاميّة ١٩٠٢ في واجهة مكتبة دار النهار في شارع الحمرا-بيروت.


أحدث مقاطع الفيديو
مشاهدة :46198 الخميس ٠٢ / يناير / ٢٠٢٤
مشاهدة :43046 الخميس ٠٢ / يونيو / ٢٠٢٤
مشاهدة :42597 الخميس ٠٢ / يناير / ٢٠٢٤
معرض الصور