Lebanon News I ليبانون تابلويد : أخبار الساعة من لبنان والعالم!


السرديَّة التاريخيَّة: العلاقات اللبنانيَّة الإيرانيَّة أبعدُ من حزب الله

نشرت مجلة "المشرق" الالكترونية في عددها الجديد، بحثا لناشر" ليبانون تابلويد" انطوان سلامه بعنوان"السرديَّة التاريخيَّة: العلاقات اللبنانيَّة الإيرانيَّة أبعدُ من حزب الله".

السبت ١٥ مارس ٢٠٢٥

اخبار ليبانون تابلويد الآن عبر خدمة
اضغط هنا

اختزلت وسائل الإعلام، خلال عقود ماضية، علاقات لبنان وإيران من خلال الدعم الذي تقدِّمه دوائر في الجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة لحزب الله، خصوصًا في سياق مواجهة إسرائيل وفي مرجعيَّة التقليد التي تعني شيعيًّا اتِّباعَ فقيهٍ في الأحكام الشرعيَّة والفقهيَّة، باعتباره الأعلمَ والأقدر على استنباط الأحكام من المصادر الدينيَّة، وهذا الأمر مهمٌّ في علاقة مجموعات من شيعة لبنان تؤمن بولاية الفقيه، بصلاحيَّاته في الحُكم وإدارة الدولة. وقد جمع السيّد عليّ الحسينيّ خامنئيّ، "قائد الثورة الإسلاميَّة" أو "وليُّ أمر المسلمين" بين المرجعيَّة الدينيَّة والقيادة السياسيَّة، ما يجعل "طاعته" تمتدُّ من الفقهِ إلى إدارة الدولة وَفْق نظريَّة ولاية الفقيه.

 يمثِّل الإمامان الخمينيّ وخامنئيّ المرجعيَّة الدينيَّة والسياسيَّة العليا للحزب الذي يتبع نهج "ولاية الفقيه" بروافده الشرعيَّة والاستراتيجيَّة في قضايا المقاومة الإسلاميَّة وسياساتها الإقليميَّة، فيعزِّز خامنئيّ الشرعيَّة الفكريَّة والسياسيَّة لحزب الله في "المحور الإيرانيّ".

مقدِّمة لطرح الإشكاليَّة:

أثَّرت هذه العلاقة في اتِّجاهات السياسة في الداخل اللُّبنانيّ والصراع في الشرق الأوسط بشكل رسَّخ دورَ الجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة في لبنان وفي الإقليم نفوذًا مؤثِّرًا وفعَّالًا.

تتعدَّد، في إطار هذه الصورة الشائعة، الإشكاليَّات في مقاربة العلاقة الملتبسة بين لبنان وإيران. ففي الظاهر تبدو العلاقة الثنائيَّة محدَّدةً بروابط بين دولة وأخرى من خلال القواعد الديبلوماسيَّة المعروفة والمتداوَلة أمميًّا. وتنقشع الرؤية، في الظلّ، لخصوصيَّةٍ فريدةٍ من نوعها عالميًّا، في العصر الحديث، بين دولةٍ وحزب خارج إطار العلاقات الدوليَّة الكلاسيكيَّة، أو علاقة حزبٍ بأيِّ أيديولوجية عابرة للحدود، كالأيديولوجية الشيوعيَّة في زمن "الحرب الباردة"، أو التيَّارات المعروفة في الإقليم العربيّ كالناصريَّة والبعثيَّة، بحيث اندمجت علاقات لبنان وإيران بمحوريَّة حزبِ الله فيها، في التقارب والتباعد، فبات الحزبُ مقياسَ العلاقات الثنائيَّة بين البلدين ومحورَ إحداثيَّاتها وتماثلِها كأداة وصل. وهنا يُطرح السؤال، هل علاقة لبنان وإيران من جهة، وارتباط حزب الله بالجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة من جهةٍ أخرى، حصريَّة لا مثيل لها؟

العلاقة الفريدة:

يمكن القول إنَّ علاقة حزب الله بالجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة، عبر ولاية الفقيه، فريدة من نوعها من حيث الولاء العقائديّ والسياسيّ المباشر، ولا يوجد في العالم الإسلاميّ السُنِّيّ نموذج مطابقٌ تمامًا لعلاقة حزب الله بولاية الفقيه، لأنَّ المُعتقد السُنِّيّ لا يعتمد هذا النموذج من "الولاية" مرجعيًّة دينيًّة وسياسيًّة.

لكنَّ التبحُّر في الموضوع يكشف عن حالاتٍ شبيهة جزئيًّا على مستوى العلاقة العقائديَّة السياسيَّة كتلقِّي مجموعات من "الإخوان المسلمين" دعمًا سياسيًّا وماليًّا من تركيا وقطر إلى جانب التأثير الأيديولوجيّ والتنسيق السياسيّ بين الفريقين، من دون أن يعني ذلك "ولاية دينيَّة مُلزِمة" كما هو الحال بين حزب الله والسيِّد خامنئيّ. الأمثلة كثيرة في العلاقات في الإسلام السياسيّ السنِّيّ كعلاقة حركة طالِبان الفكريَّة والعقائديَّة مع علماء في باكستان والمدارس الديوبنديَّة (نسبة إلى ديوبند في الهند)، لكنَّها تجري خارج إطار المرجعيَّة الدينيَّة.

وفي مثالٍ آخر أنَّ حركة "الشباب المجاهدين" في الصومال تتبع فكر "القاعدة"، وتعتبر نفسها جزءًا منها في علاقة تنظيميَّة وعقائديَّة، وليست في ولاية دينيّةٍ مطلقة كما الحال في علاقة حزب الله بولاية الفقيه. إضافةً الى فصائل شيعيَّة عراقيَّة مثل كتائب حزب الله، و"عصائب أهل الحقّ" التي تتقيَّد بتوجيهات ولاية الفقيه سياسيًّا وعقائديًّا. يبقى حزب الله في لبنان حالة خاصَّة في عضويَّة علاقته العميقة والرسميَّة مع إيران عسكرًّا وماليًّا وتنسيقًا سياسيًّا ما يجعله الأقرب تنظيميًّا إلى إيران.

الإشكاليَّة:

دُرست هذه الحالة كثيرًا في العلاقة الفريدة، ويُفيد في هذا المجال طرحُ الأسئلة التالية: هل تنشأ علاقة الجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة بحزب الله من العدم، وهل هناك روابط بين لبنان وإيران خارج هذه الحلقة المعقَّدة في حلقاتٍ رئيسة تتفرَّع إلى مكامن عدَّة في الدين والدنيا؟

حين يتمُّ التعمُّق في العلاقات اللُّبنانيّة- الإيرانيَّة قبل العام ١٩٧٩ يتَّضح فورًا أنَّها علاقات تمتدُّ إلى مرحلةٍ تسبق قيام الهويَّات الوطنيَّة في البلدين، قبل لبنان وإيران ككيانَين سياسيَّين، فثمَّة تفاعلات تجاريَّة وثقافيَّة ودينيَّة تشكَّلت في المنطقتَين الجغرافيّتَين اللَّتين عُرفتا حديثًا باسم الجمهوريَّة اللُّبنانيَّة والجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة.

  تكمن الإشكاليَّة الحديثة في العلاقات اللبنانيَّة - الإيرانيَّة في التشابك بين المدنيّ والدينيّ والحزبيّ. ومن المفارقات أنَّ دستور الجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة يَطرح من تلقاء نفسه هذه الإشكاليَّة.

ويؤكِّد هذا التشابك في بنوده، التي تتناول العلاقة الإيرانيَّة مع الدول ومع الشعوب "المستضعَفة" أيضًا التي يستوجب دعمها في مواجهة "الاستكبار" بالإضافة إلى أنَّ الدستور الإيرانيَّ يلتزم بولاية الفقيه بما تعنيه دينيًّا، كمرجعيَّة تقليد، وسياسيًّا أو استراتيجيًّا كحاضنةٍ للمقاومات الشعبيَّة ضدَّ الظالمين. وفي هذه التعابير ما يفتح الاجتهادات في توضيح التباساتها، ومن خلال هذه الاتِّجاهات تُواصِل إيران الإسلاميَّة حاضرًا والفارسيَّة تاريخيًّا، التصرُّف، إمبراطوريًّا، في ترسيخ نفوذها الإقليميّ والدوليّ.

الدستور الإيرانيّ أوَّلًا:

يتميَّز الدستور الإيرانيّ الحاليّ بفرادة الدمج بين العلاقات الدوليَّة الكلاسيكيَّة وبين العلاقات مع الشعوب التي تُحدِّدها الاستراتيجيَّة الإيرانيَّة شعوبًا مظلومةً في استنسابيَّةٍ تراعي معايير خاصَّة.

لا يلحظ الدستور اللُّبنانيّ أيَّ عقيدة دينيَّة للجمهوريَّة اللُّبنانيَّة بعكس ما يلحظُه الدستور الإيرانيّ الفريد من نوعه ليس في تماهيه مع الشرع الإسلاميّ والشعوب الإسلاميَّة فحسب، بل في طريقة ممارسته بشكلٍ يختلف عن ممارسات دولٍ إسلاميَّة مع مجموعات شعبيَّة في دولٍ أخرى. يقوم الدستور الإيرانيّ بشكل واضح على مبدأ الإسلام الشيعيّ وولاية الفقيه والعدل وَفق المذهب الاثني عشريّ في رفض الظلم والاستبداد.

تُشير دساتير عربيَّة وإسلاميَّة إلى دعم الشعوب؛ مثلًا، يدعو الدستور المصريّ إلى مساندة القضايا العادلة في العالم. وتلتزم دساتير عدَّة كالجزائر وتونس والمغرب والأردن بمبادئ العدالة الدوليَّة.

كما تلتزم مقدِّمة الدستور اللبنانيّ بمواثيق الإعلان الأمميّ لحقوق الإنسان. في المقابل، يدعم الدستور الإيرانيّ الشعوب المستضعَفة ضدَّ الاستكبار لأنَّه "واجب إسلاميّ".

وفي البُعد الدينيّ للدستور الإيرانيّ وضوح في ولاية الفقيه العادل والتقِيّ ودراية بالشؤون الزمنيَّة والدينيَّة في غياب الإمام المعصوم.

انطلاقًا ممَّا ورد، فإنَّ أيَّ قضيَّةٍ لشعب تَعتبر إيران أنَّه يجب دعمها ضدَّ الاستكبار هو تصرُّف دستوريّ وشرعيّ، وفي هذا السياق تدعم الجمهوريَّة الإسلاميَّة حركات المقاومة الإسلاميَّة، ضمنًا حزب الله، بمعزلٍ عن علاقاتها الكلاسيكيَّة مع الدول، وهذه خصوصيَّة إيرانيَّة تنصُّ عليها المادَّة ١٥٤من الدستور في "دعم المستضعفين في العالم ضدَّ المستكبِرين".

وترى القيادة الإيرانيَّة أنَّ تصدير الثورة الإسلاميَّة جزءٌ من مسؤوليَّتها الأيديولوجيَّة، في حين أنَّ المملكة العربيَّة السعوديَّة والإمارات العربيَّة حين تدعمان فصائل في اليمن وليبيا والسودان، تنطلقان من مصالح سياسيَّة إقليميَّة، كدعم "التحالف العربيّ" بقاطرته السعوديَّة قواتِ الشرعيَّة اليمنيَّة في مواجهة الحوثيِّين، أو حين تمَّ دعمُ المشير خليفة حفتر في مواجهة حكومة الوفاق الليبيّ سابقًا، أو في دعم قوًى عسكريَّة سودانيَّة تماشيًا مع المصالح السعوديَّة والإماراتيَّة في المنطقة وفق قواعد براغماتيَّة تنفصل عن المرجعيَّة الدينيَّة المُلزِمة.   

في الخلاصة، تمزج السياسة الخارجيَّة الإيرانيَّة بين تصدير الثورة عقائديًّا في إطار التشيُّع وبين دعم الحركات الشعبيَّة التي تتلاءم مع استراتيجيَّة الدولة الإيرانيَّة، ويشكِّل لبنان أنموذجًا في دعم حزب الله في نشر الثورة وفي مواجهة إسرائيل كأولويَّة في تقويته عسكريًّا وأمنيًّا، واجتماعيًّا بإنماء بيئته الحاضنة حصرًا في ظلِّ ضعف الدولة اللبنانيَّة وخصوصيَّاتها الطائفيَّة.

فهل ما يُحكى عن النفوذ الإيرانيّ إقليميًّا ينحصر في دعم حزب الله لبنانيًّا، بمعنى أنَّه مُستجدٌّ أم له جذوره وتموُّجاته في المراحل التاريخيَّة في مستويات عدَّة؟

المستوى الشيعيّ:

تنطلق العلاقة بين حزب الله والجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة من منصَّاتٍ تاريخيَّة بمعنى أنَّها تتخطَّى الآنيَّة إلى ما هو أعمق، ترتبط أساسًا بدَور علماء الشيعة في جبل عامل في نشر التشيُّع منذ العصور الإسلاميَّة المُبكرة، وفي العلاقات الدينيَّة بين الشيعة في إيران ولبنان منذ العصر الصفويّ، والتي استمرَّت حتَّى اليوم.

تصلح هذه المحطَّة الزمنيَّة منطلقًا لتحديد جزء أساسيٍّ في العلاقات التاريخيَّة اللبنانيَّة الإيرانيَّة، تبدأ طائفيًّا من بدايات هجرة العلماء الشيعة من جبل عامل إلى إيران في ظلِّ رعاية الصفويّين في القرن السادس عشر. إنَّها أوَّل حلقة تركت آثارًا ملموسة في الذاكرة التاريخيَّة الحيَّة المرتبطة بترسيخ التشيُّع رسميًّا في إيران في عهد الشاه إسماعيل الأوَّل في العام ١٥٠١ الذي بنى الدعائم الأولى للدولة الإيرانيَّة والتي أفضت إلى كيانٍ سياسيٍّ وجغرافيّ تُعدُّ الجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة آخرَ تجسيدٍ له.  نشأ الصفويُّون حركةً سُنِّيَّة، ثمَّ تبنَّوا شكلًا "مَهدويًّا" من التشيُّع الشعبيّ بين قبائل التركمان في الأناضول في القرن الخامس عشر.

بعد أن تمكَّن الشاه إسماعيل من الوصول إلى السلطة بمساعدة قبائل القزلباش أسَّس التشيُّعَ الاثني عشريّ دينًا رسميًّا للدولة الجديدة، ومع خلفائه تضاءل تأثير القزلباش تدريجيًّا. وبحلول القرن السابع عشر أصبحت إيران كيانًا أشبه بما أَطلق عليه الباحث برايان تيرنر "أمَّة - مؤسَّسة دينيَّة - دولة"، حيث كان التضامن المجتمعيّ مبنيًّا على الدين المشترك: التشيُّع الاثني عشريّ.

يعود الفضل في ذلك إلى علماء عامليِّين مهاجرين، أهمُّهم عليّ بن عبد العال بن عبد العالي العامليّ الكركيّ (المعروف بـ "المحقِّق الكركيّ") صاحب الشخصيَّة "القادرة والقويَّة"، كما وصفه الشيخ جعفر المهاجِر في كتابه الهجرة العامليَّة إلى إيران في العصر الصفويّ، فاقتنع به الشاه إسماعيل الأوَّل، فولَّاه دينيًّا لتنظيم دولته الشيعيَّة الفتيَّة، نظرًا لأنَّ معظم رعايا الصفويِّين كانوا من السُنَّة، استعانوا بعلماء دين عرب من جبل عامل وبلاد الرافدَين والبحرين لإنشاء بنية تحتيَّة دينيَّة شيعيَّة الطابع، وهذه أوَّل حالة ارتباط تاريخيَّة بين "إيران" و"لبنان" الذي لم يكن معروفًا ككيانٍ سياسيٍّ واجتماعيّ في فترة انتقاليَّة بين نهاية العهد المملوكيّ وبداية السلطنة العثمانيَّة حين برزت الدولة الصفويَّة في إيران.

أصبح الكركيّ قوَّة مؤثِّرة في إيران، ليس في إعداد الفقهاء والأئمَّة فحسب، بل في "تشييع" كبار المسؤولين في الدولة الصفويَّة والمواطنين في القرى والمدن الإيرانيَّة. انتقل نفوذُه من إسماعيل الأوَّل إلى ابنه "طهماسب" الذي أمر شعبَه وقياداتِه بطاعة الكركيّ ووسَّع صلاحيَّاته إلى أن ارتطم بالمتضرِّرين من تحكُّمه بالمفاصل الدينيَّة والدنيويَّة في إيران، فانتظم المتضرِّرون تحت راية الشيخ إبراهيم بن سليمان القطيفيّ الذي عارض الكركيّ في عدد من مباحثه، فحسم الشاه هذه المنافسة بإبعاد الكركيّ إلى العراق.

وفي هذا المقام، يُعَدُّ المؤرِّخ ألبرت حوراني من السبَّاقين الذي أثبتوا أهمِّيَّة التواصل بين جنوب لبنان وإيران قبل أن يتبعه باحثون آخرون.

تتمدَّد العلاقات العامليَّة - الإيرانيَّة إلى هُجُرات متبادَلة ومتعاكِسة، تمثَّلت بانتقال عشائر فارسيَّة انتظمت في عشيرة آل حمادة الشيعيَّة في جُبيل كبداية قبل أن تحكم، بفضل جبيِها الضرائب بالمزايدة، شمالَ جبل لبنان.

في القرن التاسع عشر، مع تحسُّن العلاقات العثمانيَّة الإيرانيَّة، عُومل شيعة جبل عامل بقساوة أخفّ من قساوة التعامل مع شيعة العراق وشرق الجزيرة العربيَّة.

تعزَّزت العلاقات بين شيعة لبنان وشيعة إيران عبر مرجعيَّات قُمْ إلى جانب مرجعيَّات النجف، فاستقرَّت عائلات إيرانيَّة في مدنٍ لبنانيَّة، وعملت في التجارة وزراعة التبغ. وعلى الرغم من اندماجهم في المجتمع الشيعيّ اللبنانيّ، إلَّا أنَّ ألقابًا مثل "عجميّ" و"إيرانيّ" ظلَّت تُذكِّر بأصولهم.

وبرزت في هذا الاختلاط تأثيرات الإيرانيِّين في لبنان بإدخالهم طقوسَ عاشوراء الخاصَّة بإحياء ذكرى الإمام الحسين، والتي أصبحت جزءًا من الثقافة الدينيَّة للشيعة اللبنانيِّين على الرغم من معارضة عددٍ من علماء الجنوب أمثال محسن الأمين...

مستوى ولاية الفقيه العامليَّة الجذور:

   ساهم علماءُ جبل عامل في تطوير الفقه الشيعيّ، وما هو مهمٌ هنا أنَّ "فكرة ولاية الفقيه" انطلقت من هذا الجبل قبل أن تتبلور في الظاهرة الخمينيَّة. فالشيخ محمَّد بن مكِّي الجزِّينيّ، المعروف بالشهيد الأوَّل حين أمر بقتله نائبُ دمشق "بيدمر" الخوارزميّ، في عهد سلطنة برقوق المملوكيّ، بضرب عنقه بعد سجنه في قلعة دمشق لتحزُّبه الشيعيّ، كان من الأوائل الذين طَوَّروا الفقه الشيعيّ بما يتعلَّق بولاية الفقيه.

أسَّس لمسار تحسين شروط الانتظار حتَّى عودة المهديّ، فكان من السبَّاقين في شرح علاقة رجال الدين بالمجتمع. وقد التزم بواجبه الإصلاحيّ التوعويّ، وأحدث نهضة علميَّة واجتماعيَّة كبيرة تركت بصماتها في العصور اللاحقة، فكانت مدرستُه الفقهيَّة (جزِّين) أوَّل منصَّة علميَّة في جبل عامل، وفي رأس النشاط الفكريّ الشيعيّ هناك خرَّجت أعدادًا من الفقهاء والعلماء المفكِّرين ...فلُقِّب بـ "أفقه جميع فقهاء الآفاق"، و"الشيخ المجتهِد"، و"الفقيه المجدِّد"، و"القطب" في جبل عامل، وحوَّل جزِّين إلى مدرسة فقهيَّة خرَّجت تلاميذ نشطوا بعده في جبل عامل وكرك نوح والشام وحلب.

وأهمُّ ما أنجزه كان كتابَه "اللمعة الدمشقيَّة" الذي لا يزال قاعدة للفتاوى في أبوابٍ كثيرة، منها الزكاة والخُمس والجِهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر والقضاء والحَجر والنكاح والحدود.

تجلَّت "عبقريَّة الشهيد الأوَّل العلميَّة والسياسيَّة" في استنباطه فكرة "ولاية الفقيه" كأساس الفكر السياسيّ الشيعيّ الإماميّ. فـ "الشهيد الأوَّل" سبّاقٌ في إطلاق هذه الفكرة التي منحت، لأوَّل مرّة منذ انتهاء فترة الحضور العلنيّ للأئمَّة، مفهومَها الخاصّ للشرعيَّة وآليَّتها الخاصَّة لإنتاج السلطة.

مستوى المرجعيَّات:

لا تَختصر إيران علاقةَ شيعة لبنان بشيعة العالم. يتبع الشيعة اللبنانيّون مرجعيَّاتِ تقليد دينيَّة وفقًا للتوجُّهات الفكريَّة والدينيَّة التي يتبنَّونها. وتختلف هذه المرجعيَّات بين الأفراد والجماعات. ومن أبرز المرجعيَّات الدينيَّة التي يعتمد عليها الشيعة في لبنان السيِّد علي السيستانيّ (النجف – العراق)، وهو يُعدُّ من أبرز المرجعيَّات الشيعيَّة في العالم، ويتبعه، بشكل واسع في لبنان، العديدُ من المؤمنين، خصوصًا الذين يرتبطون بالتقاليد الحوزيَّة النجفيَّة.

ويتبع عدد من المؤمنين كذلك، وخصوصًا في صفوف حزب الله، الإمامَ الخمينيّ وخلفاءه (إيران). وهو يُعدُّ مرجعًا مؤثِّرًا لدى شريحة كبيرة من الشيعة في لبنان، وخلِفَه السيِّد علي خامنئي، الذي يُنظر إليه أيضًا مرجعَ التقليد السياسيّ والدينيّ الرئيس لهذه الفئة. وكان السيِّد فضل الله مرجعًا فكريًّا وفقهيًّا بارزًا وله تأثير واسع في لبنان، وتحديدًا في ما يتعلَّق بالجوانب الاجتماعيَّة والفكريَّة.

وما زال عددٌ واسعٌ من الشيعة يتبعون فكرَه حتَّى بعد وفاته. وهو يُعدُّ أحدَ روَّاد الفكر الشيعيّ المستقلّ. وفي هذا الاتِّجاه الاستقلاليّ، يبرز السيِّد علي الأمين المؤثِّر في مثقَّفين ومعتدلين منفتحين من الشيعة على الطوائف اللبنانيَّة الأخرى.

تختلف هذه المرجعيَّة في الاهتمامات، فتركِّز المرجعيَّة النجفيَّة المُمثَّلة بالسيِّد السيستاني على البُعد الفقهيّ والاجتماعيّ أكثرَ من السياسيّ، ولها تأثير في حفظ توازنٍ دينيٍّ معتدل، اقترب منه السيِّد محمَّد حسين فضل الله في تقديمه نهجًا دينيًّا وفقهيًّا مستقِلًّا عن السياسة الإيرانيَّة في مراحل من حياته.

وبعكس الشائع، وفي ظلِّ تقدُّم حزب الله في المشهد الشيعيّ، فإنَّ تعدُّد تقليدِ المرجعيَّات يعكس التنوُّعَ داخل الطائفة الشيعيَّة في لبنان ويؤثِّر في أبعادها الاجتماعيَّة والسياسيَّة.

هل تقليد مرجعيَّة في مراحل محدَّدة، أصيل ومستدام؟

مالَ شيعةُ لبنان إجمالًا إلى مرجعيَّة النجف في العراق أكثر من مرجعيَّة قُمْ في إيران. لقد تقيَّدوا، مثلًا، بين العامَين ١٩٤٤ و١٩٦١ بالمرجعيَّة النجفيَّة آية الله العُظمى محسن الحكيم (١٨٨٩-١٩٧٠)، وتحوَّل الشيعة بعد وفاته إلى آية الله أبو القاسم الخوئيّ، محافظِين على وجهتهم النجفيَّة. أحدَث الإمامُ الخمينيّ (١٩٠٢-١٩٨٩) تطوُّرًا بارزًا في المرجعيَّة الشيعيَّة الإيرانيَّة بإطاحته بنظام الشاه محمَّد رضا بهلوي، وتأسيسه الجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة (١٩٧٩)، فتحوَّل إلى أبرز شخصيَّة إسلاميَّة في التاريخ الحديث. تفاعل الجمهورُ الشيعيّ مع أفكار الإمام الخمينيّ منذ العام ١٩٧٩، حين اطَّلعوا على مخطَّط دستور الجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة، فأيَّده بعضُ رجال الدين وعارضَه آخرون مثل محمَّد جواد مغنيّة (١٩٠٤-١٩٧٩) لجهة معصوميَّة الإمام.

تبنَّى حزبُ الله منذ الثمانينيَّات مفهوم ولاية الفقيه جزءًا من منهجه. وأيَّد السيِّد محمَّد حسين فضل الله المرشد الروحيّ لحزب الله، في البداية، هذا التوجُّه، ثمَّ ابتعد لاحقًا عن المرجعيَّة الإيرانيَّة لاعتقاده بصعوبة تطبيق هذا المبدأ في لبنان المتنوِّع طائفيًّا. وتَواصَلَ مع المرجعيَّات التقليديَّة في النجف مثل آية الله العظمى أبو القاسم الخوئيّ (١٨٩٩-١٩٩٢). وقد تخلّى حزبُ الله لاحقًا في وثيقته السياسيَّة الثانية، عن تبنِّي تنفيذ ولاية الفقيه في لبنان، لكنَّه حافظ على تقليد المرجعيَّة الإيرانيَّة المُختلَف على مقاربتها لبنانيًّا، بين الحزب وبين قائد حركة أمل نبيه بريّ، الذي أكَّد استقلاليَّة حركته في ثابتةِ احترام السلطة الروحيّة الشيعيَّة من دون التزام سياسيّ.

وشدَّد الإمام محمَّد مهدي شمس الدين في "وصاياه" على أولويَّة "الهويَّة اللبنانيَّة الشيعيَّة".

إذاً، يختلف ارتباطُ الشيعة بالمرجعيَّات، ولا ينحصر بولاية الفقيه في مثال حزب الله، حيث يتداخل الدينيّ والسياسيّ والعسكريّ والأمنيّ والماليّ بشكل ظاهر، فيعتبر الأمينُ العامُّ الراحل للحزب السيِّد حسن نصر الله، في بدايات نشاطه، من مُنطلقٍ إيمانيٍّ- عقائديّ، أنَّ مشروع حزبه "هو مشروع دولة إسلاميَّة، وحكم الإسلام، وأن يكون لبنان ليس جمهوريّة إسلاميَّة واحدة، بل جزء من الجمهوريَّة الإسلاميَّة الكبرى التي يحكمُها صاحبُ الزمان ونائبُه بالحقِّ الوليُّ الفقيه". هذا الكلام لنصر الله، والذي ينطق به قائدٌ "إسلاميّ" ملتزم بعقيدته، يفتح الباب لإشكاليَّة "الأفضليَّة" في الخيار بين الوطنيّ ومصالحه الدستوريَّة وتقاطعاته الميثاقيَّة وبين الدينيّ الذي يرفع المقام الطائفيّ أو المذهبيّ في سلَّم الأولويَّات. دافع السيِّد حسن نصر الله عن تدخُّل حزبِه في الحرب السوريَّة (٢٠١١)، على الرغم من معارضة شريحةٍ من اللُّبنانيِّين (النأي بالنفس)، فأدرجه في "حماية مقام السيِّدة زينب حفيدة الرسول".

في هذا المجال، يتداخل الدينيّ بالدنيويّ في أداء حزب الله كقاطرة شيعيَّة متينة، وكمؤثِّر في رسم معالم الصورة اللبنانيَّة في هذه المرحلة التاريخيَّة، إنْ في تحديد الصداقات في العلاقات الإقليميَّة والدوليَّة أو في العداوات... ومن خلاله ترتسم ظواهر في العلاقات اللبنانيَّة - الإيرانيَّة الرسميَّة لا تتلاءم مع أسس العلاقات الدوليَّة الخالية من نموذجِ التداخل بين دولةٍ وأخرى وحزب.

المستوى الثقافيّ:

إذا كانت العلاقات اللبنانيَّة - الإيرانيَّة تسير تاريخيًّا في خطٍّ من خطوط العلاقات الديبلوماسيَّة، فإنَّ هذه العلاقة في زمن الجمهوريَّة الإسلاميَّة عرفت خصوصيَّاتٍ نادرة لم تكن في حكم الشاه.

انتهج عهدُ الشاه رضا سياسةَ الانفتاح على المديَين العربيّ والغربيّ، وشكَّل لبنان زاوية من زوايا صلة الوصل بين المديَين، من خلال الجامعتَين اليسوعيَّة الناطقة باللُّغة الفرنسيَّة (١٨٧٥) والأميركيَّة (١٨٦٦) في بيروت، حيث جذبتا جيلًا إيرانيًّا نُخبويًّا للدراسة فيهما، بعدما شاع تعلُّم اللغة العربيَّة في إيران في مجموعات متحمِّسة للانفتاح على المحيط، والاطِّلاع على الحركة الفكريَّة النهضويَّة في بيروت من خلال قراءة نِتاج البساتنة واليازجيِّين.

شعر النخبويُّون الإيرانيُّون متقِنو العربيَّة براحةٍ في بيروت مقارَنةً بعواصم غربيَّة. جذبهم في هذه المدينة المتوسِّطيَّة التعلُّم على النمط الغربيّ، في اليسوعيَّة والأميركيَّة، من دون الانسلاخ عن العالم الإسلاميّ. برز من خرِّيجي المعاهد البيروتيَّة محمَّد علي جمال زاده (١٨٩٥-١٩٩٧) الذي أطلق الحداثة في النثر الفارسيّ بعد دراسته في بيروت (١٩٠٨) وتتلمُذِه في مدارس لاتينيَّة فرنسيَّة الطابع (Lycée Français) كانت تستقبل عددًا مُهمًّا من فِتيان إيران، أمثال أمير عبَّاس هويدا (١٩١٧-١٩٧٩) الذي شغل منصبَ رئيس الوزراء مدَّة طويلة في عهد الشاه الأخير، إضافة إلى شابور بختيار الذي درس في بيروت وعاش فيها في الثلاثينيَّات، وروى حياته "الجميلة" فيها في مذكَّراته التي كتبها في منفاه الباريسيّ. وحين اندلعت الحرب الأهليَّة في لبنان رثاه بحرارة كـ "فردوسٍ مفقود"، وأشاد بالتسامح الدينيّ فيه.

 وفي الجامعتَين اليسوعيَّة والأميركيَّة درس أطبَّاء وممرِّضون أوائل العلوم الطبِّيَّة الحديثة وعادوا إلى بلادهم ليُطلقوا فيها الاستشفاء الحديث.

مثَّلت بيروت، بتاريخها التعليميّ والثقافيّ، بوَّابة للإيرانيِّين للحصول على التعليم الحديث والانخراط في التجارب الأدبيَّة والسياسيَّة والاستشفائيَّة التي ساهمت في تشكيل النُخب الفكريَّة والسياسيَّة الإيرانيَّة.

من خلال التعليم والتفاعل الثقافيّ أدَّى لبنان دورًا أساسيًّا في تشكيل النخبة الإيرانيَّة الحديثة، ما عزَّز العلاقة الثقافيَّة والسياسيَّة المدنيَّة بين البلدين. مستوى لبنان الكبير تزامنت نشأةُ لبنان كيانًا مستقلًّا (١٩٢٠) مع صعود رضا شاه بهلوي إلى الحكم في إيران (١٩٢١-١٩٢٦).

كما تزامن تأسيسُ الجمهوريَّة اللبنانيَّة الأولى مع عهد محمَّد رضا شاه. وكانت بيروت في العشرينيَّات مركزًا تجاريًّا مهمًّا في الشرق الأوسط. من أبرز الوجوه التجاريَّة الإيرانيَّة في بيروت حبيب ثابت (١٩٠٣-١٩٨٣) الذي زارها في العام ١٩٢٥، وانبهر بانفتاحها على السلع الأوروبيَّة، فوصفها بـ "باريس الشرق الأوسط".

يشكِّل حبيب ثابت نموذجًا إيرانيًّا حديثًا، تقاطعت في شخصيَّته الثقافةُ التجاريَّة اللُّبنانيَّة - الإيرانيَّة بعيدًا عن الدائرة الشيعيَّة، بل كان من البهائيِّين الذين فضَّلوا لبنان على إيران للتسامح الدينيّ النِسبيّ في بيروت.

ومن نماذج التُجَّار اللُّبنانيِّين الناجحين في إيران ميشال الجميِّل (١٨٩٣-١٩٧٤) وعائلته.

مستوى العلاقات الدبلوماسيَّة في عهد الشاه :

يمكن القول إنَّ العلاقات اللبنانيَّة - الإيرانيَّة عرفت ذروتها الكلاسيكيَّة في الخمسينيَّات، في عهد الرئيس كميل شمعون وعلاقته القويَّة مع الشاه محمَّد رضا بهلوي.

وتأسَّست العلاقات الدبلوماسيَّة بين لبنان المستقلّ وإيران في تلك الفترة، وشهدت العلاقات تقاربًا بين الشاه الإيرانيّ والنخبة المارونيَّة في لبنان، بسبب مواقفِهما المشتركة المناهضة للقوميَّة العربيَّة بقيادة جمال عبد الناصر في مصر.

في العام ١٩٥٧ زار الشاه بيروت في إطار جولاته الديبلوماسيَّة على دول المنطقة لتعزيز محورٍ سياسيٍّ تبلور في "حلف بغداد" بقاطرته الأميركيَّة في عُمق العالم الإسلاميّ الذي انخرط فيه شمعون إلى جانب دولٍ إسلاميَّة الطابع كإيران وتركيا والعراق. ودعم الشاه الرئيسَ شمعون في دعوته مُشاة البحريَّة الأميركيَّة للنزول في الشاطئ اللبنانيّ لحماية عهده في نهاياته، وانتقال السلطة إلى الرئيس فؤاد شهاب.

 ما يهمُّ أنَّ العلاقات اللُّبنانيَّة - الإيرانيَّة في الخمسينيَّات تخطَّت الجانب الطائفيّ مع أنَّ البهلوي، وعلى الرغم من خلافاته العميقة مع علماء شيعة، تبنَّى نظامُه المذهب الشيعيّ الاثني عشريّ دينًا رسميًّا.

وشكَّل نظام الشاه قِبلةً لكثير من شيعة المنطقة، لكنَّ علاقاته مع شيعة لبنان بقيت باردة لأسباب عدَّة، منها حذرُه من انخراط معظم شيعة لبنان في مشاريع عروبيَّة ويساريَّة، تُعزِّز التباعد مع تقدُّم الإمام موسى الصدر في الساحة اللُّبنانيَّة وميله إلى المعارضة الإسلاميَّة الإيرانيَّة، وقد اختمرت شخصيَّة الإمام الصدر في تمازج لبنانيّ - إيرانيّ في هويَّته "الكوزموبوليتانيَّة" في ثنائيَّة الجنسيَّتين اللبنانيَّة والإيرانيَّة.

يمكن القول إنَّ نظام الشاه مدَّ علاقاتٍ مع النخبة المارونيَّة أكثرَ من النُخب الشيعيَّة.

وتردَّدت معلومات أنَّ الشاه دعَم القوى المارونيَّة في بدايات الحرب الأهليَّة في مرحلةٍ استفاد معارضوه من التنوُّع الطائفيّ في لبنان وركاكة نظامه، ليلجأوا إليه، وينطلقوا في جهادهم ضدَّ نظام الشاه. المستوى الحاليّ تميَّزت العلاقات اللُّبنانيَّة - الإيرانيَّة قبل قيام الثورة الإسلاميَّة في إيران بأبعادٍ تخطَّتها الظروفُ الحاليَّة. فكانت كلاسيكيَّة دوليًّا، وبراغماتيَّة في تحديد المصالح كما في حلف بغداد، لكنَّها تبدَّلت أو تأثَّرت بالمنهجيَّة الخمينيَّة في "تصدير الثورة"، بما ينعكس في الدستور ومقدِّمته من ضرورة دعم الحركات الإسلاميَّة الشعبيَّة عالميًّا لتحقيق "الأمَّة" في قنواتٍ تَخصَّصَ الحرسُ الثوريّ في فتح منافذِها أيديولوجيًّا وميدانيًّا لتوسيع "السيادة الإلهيَّة"، والدفاع عن حقوق المسلمين والمستضعَفين ضدَّ المستكبِرين. يتَّضح كم أنَّ العلاقات اللبنانيَّة - الإيرانيَّة قديمة، وإنْ تفاوتت حرارتُها بين مرحلةٍ تاريخيَّة وأخرى، لكنَّ هذه العلاقات خرجت من سياقها وتراكماتِه الزمنيَّة، بأشكال عدَّة، تجاريَّة وطائفيَّة وديبلوماسيَّة، إلى رحابٍ من التحوُّلات فرضها الدستورُ الإيرانيّ بحدِّ ذاته في الأطر التالية: - الإطار الشيعيّ الاثني عشريّ، بحيث التزمت إيران القضايا الشيعيَّة المحليَّة في محاولةِ استقطابٍ، مرجعيًّا أو سياسيًّا أو جهاديًّا.

ووجَدت مجموعاتٌ شيعيَّة في إيران محورًا لدعمها وتبنِّي قضاياها.

- الإطار العامّ، بحيث دعمت الجمهوريَّة الإيرانيَّة حركاتِ تحرُّر في أماكن عدَّة في نيكاراغوا بدعم الساندينيِّين، وجنوب أفريقيا وحتَّى في دعم أرمينيا والجيش الجمهوريّ الإيرلنديّ، ودعم حركتَي حماس والجهاد الإسلاميّ في قطاع غزَّة.

ويبقى دعم شيعةِ العالم والمحيط هو الأساس كدعمِ شيعة العراق ضدَّ نظام البعث، وبتشجيع من الخمينيّ. فاندلعت الحرب العراقيَّة الإيرانيَّة (١٩٨٠)، وتورَّط رجالُ دين إيرانيُّون منذ العام ١٩٧٩ بمحاولات الإطاحة بالحكم في البحرين. وأسَّس الحرسُ الثوريّ الإيرانيّ ومجموعاتٌ شيعيَّة في لبنان حزب الله (١٩٨٢) في مواجهة إسرائيل، وفي تثبيت موقعه السياسيّ- الطائفيّ في النظام، إضافة إلى تعزيز دعمه الاجتماعيّ.

خلاصة واستنتاج:

تتجاوز علاقة الجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة بلبنان وحزب الله الدور التقليديّ للمؤسّسات الدينيَّة مثل الفاتيكان والأزهر والنجف.

أوَّلًا، تشكِّل الجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة كيانًا سياسيًّا وعسكريًّا يدعم حزب الله بغلاف عقائديٍّ يتمثَّل بـ "ولاية الفقيه".

ثانيًا، يؤثِّر الفاتيكان روحيًّا في العالم ولا يدعم فصائل سياسيَّة أو عسكريَّة.

ثالثًا، لا تمارِس مؤسَّسة الأزهر دورًا سياسيًّا مباشرًا، بل تتصرَّف كمؤسَّسة دينيَّة تعليميَّة تؤثِّر فكريًّا. رابعًا والأهمّ، برغم مرجعيَّة السيستاني الواسعة، فإنَّه يرفض التدخُّل السياسيَّ المباشر في شؤون الدول، بل إنَّه يدعو إلى استقلالها عن سلطة الفقيه.

انطلاقًا من هذا العرض، تظهر علاقة المرجعيَّة الدينيَّة في الجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة مع حزب الله "خاصَّة"، مقارنةً بأدوار المرجعيَّات الدينيَّة التقليديَّة في العالم.

   الأستاذ أنطوان سلامه: كاتب وصحافيٌّ وناشر موقع ليبانون تابلويد. أستاذ محاضر في عدد من الجامعات اللبنانيَّة في الإعلام والقضايا المعاصرة. حائز إجازتَين في التوثيق وفي الصحافة (الجامعة اللبنانيَّة)، وشهادة ماستر في علم الاجتماع (جامعة الكسليك). إعلاميٌّ في الإذاعة والتلفزيون. له مؤلَّفات عدَّة أبرزُها: طانيوس شاهين من منازلة الإقطاع إلى عجز الثورة (دار النهار)، ونار المُقدَّس والمحرَّم الكاريكاتور الدانماركيّ من كوبنهاغن إلى الأشرفيَّة (دار مختارات). scriptonline.as@gmail.com

ثبتُ المراجع 

Allamah Sayyid Muhamamad Hussayn Tabataba’I, SHI’ITE ISLAM, Translated from the Persian and Edited with an Introduction and Notes by Seyyed Hssein Nasr, London: Georges Allen & Unwin Ltd -1975.

 H. E. Chehabi With contributions by  Rula Jurdi Abisaab, Judith Harik, Richard Hollinger,Albert Hourani, Hassan I. Mneimneh, W. A. Samii, Majid Tafreshi, Distant Relations: Iran and Lebanon in the last 500 years, I.B. Tauris Publishers London, New York, Published in 2006 by The Centre for Lebanese Studies, Oxford- p52 (pdf).

 السيِّد محسن الأمين، خطط جبل عامل، حقَّقه وأخرجه حسن الأمين. دار المحجّة البيضاء ودار الرسول الأكرم، ٢٠٠٢.

 محمَّد جابر آل صفا، تاريخ جبل عامل، بيروت: دار النهار، ٢٠٠٤.

 جعفر المهاجر، الهجرة العامليَّة إلى إيران في العصر الصفويّ، أسبابها التاريخيَّة ونتائجها الثقافيَّة والسياسيَّة، دار الروضة للطباعة والنشر والتوزيع، ١٩٨٩.

 تمَّ استعمالChatgpt  في هذه المقالة، ودُقِّق في معلوماته قبل نشرها.   


أحدث مقاطع الفيديو
مشاهدة :55529 الأربعاء ١٩ / يناير / ٢٠٢٥
مشاهدة :52510 الأربعاء ١٩ / يونيو / ٢٠٢٥
مشاهدة :51732 الأربعاء ١٩ / يناير / ٢٠٢٥
معرض الصور